بعد وقت قليل من تصفح موقعه الإلكتروني وأعماله ذات النبرة الشخصية يمكن ببساطة اكتشاف حسّه العالي بالألوان والصوت، على الرغم من صمت الصورة وسكونها، لكن شيئا ما في كل هذه التفاصيل يتحدث بصوت عالٍ ويطرح سؤالا على المشاهد: من أنت يا هذا؟
و”أنت.. يا هذا”.. بحاجة لتعريف نفسك كي تدخل بأريحية إلى عالمه، عالم عمر الفنان، وأيضا الإنسان، فكلاهما واحد في النهاية يتصل بصدى الأماكن التي زارها، ومئات، أو ربما آلاف الصور التي كررها يوما بعد آخر وصولا إلى ها هنا.
سوري.. في العقد الرابع.. يحيا في إحدى ضواحي الولايات المتحدة، وإن كانت طبيعة دمشق مازالت مستقرة في وجدانه وذاكرته دون عناء البحث عنها. هذه فلسفته كما رواها في لقاء خاص لموقع الفن الإسلامي 21.
يُغريني الضوء _يبدأ عمر الحديث_ لطالما أحببت الضوء منذ كنت طفلا، تشدني الألوان والخطوط إلى الرسم دون عناء تصنيف نفسي رسميًا؛ إذ لم يكن هذا يسيرا لطفل يغرد خارج السرب ويبحث عن المعنى وراء أشياء من الصعب في ذلك الوقت شرحها للناس أو استيعابها من قبلهم، وخاصة فكرة التخصص في الفن كمسار حياة، لكن كهواية.. كان الأمر ممكنا، وقد بدأ من هناك.
صغيرا، تعلم، أو حاول تعلّم العزف على الكمان، لكن التجربة التي لم تكتمل كانت بداية اهتمامه واستمتاعه بالموسيقى كبديل للتعبير عن النفس، وقبل أن يأخذ التصوير مكانه إلى جانبها في مراحل الشباب.
بكاميرة صغيرة وهوامش محددة للتعبير، أخذت الصورة تحتل مساحتها في عالم عمر، فأغرته الطبيعة من جهة، وأماكن العبادة من جهة أخرى.. بتكرار الزيارات مرة بعد أخرى إليها لالتقاط أقصى ما يستطيع من صور وتعبير. وفي حين لم تتح له الظروف في سوريا الاستمرار _كما الكثيرين_ فقد نقلته أحداث (2011) لتأخذ بعالمه كله من الشرق إلى الغرب، حيث بدأ الفنان والمصور بالظهور والتبلور أكثر وأكثر وفي الولايات المتحدة الأمريكية.
هناك حيث اتسع الهامش وتمددت الحدود، فاض الشعور بالتفاصيل التي التقطتها عدسته ليبدأ في حوار عريض معها ومن خلالها. بالتكرار تارة، وبالتدوير تارة، وبالقص واللصق لمرات ومرات تارة ثالثة، خرجت مجموعاته الفوتوغرافية تباعا للنور واحدة تلو الأخرى.
يمكن للمتأمل في تلك المجموعات على موقعه تلمس السكون الذي يُغلف عالمه، أو السلام كما يصف عمر.
السلام الذي استبدل العنف، واتسع معه الشعور بإمكانية العزلة، وبالحاجة إلى معرفة أماكن الأشياء من أنفسنا والعالم وحدود وجودها، فكل الأشياء ستنتهي كما يقول دوما، وليس لنا أن نغلف بشكل دائم هذه النهاية بالحزن، بعض التسليم سيكون كافيا لتحقيق شيء من العدالة في الذات والحياة، هذه العدالة يمكن استشعارها في النور والظلام، وفي تغير الفصول، وفي المشي وحيدا نحو أماكن قصيّة لتستشعر أن العالم كله ملكك وحدك.
“في ثلاثية المشي والاستماع للموسيقى والتصوير وجدت ذاتي وعرفت طريقًا، أو طرقًا للتعبير عن الذات، أرجو أن تستمر.”
هذه الثلاثية كلّلها الشعر بالمعنى الذي يحتاجه البشر أحيانا للتواصل والفهم، فهم ذواتهم أو فهم الفنان نفسه في تعبيره وعالمه الخاص. هكذا بدأ اتصاله بالشعر القديم والحديث، قراءة وكتابة على حد سواء.
يُخبرنا عمر أنه قد بدأ قراءة الشعر القديم منذ ما يقارب سبع سنوات، أقل أو أكثر قليلا، علاقة عفوية فتحت بوابة جديدة له للاتصال بالعالم والناس.
فجأة؛ أصبح ممكنا أن تتلاقى مشاعر وتعبيرات فنان من القرون الوسطى مع آخر في القرن الواحد والعشرين، غريب عن عالمه، يغمره حنين دائم لكل ما هو جميل ومسالم.
استدعى الحوار حول الشعر حوارا موازيا عن علاقة الفنان بالمعنى من وراء فنّه، هل نكتشف المعنى أم يكتشفنا؟
يتساءل عمر نفسه عما إذا كان تصوير الجمال يجعلنا فنانين أم ناقلين للفن؟ ولنفترض إذن أننا ناقلون للفن، ما الذي يجعل مُصورا قادرا على نقل الصوت والمشاعر من وراء صورته، وآخر غير قادر سوى على نقل الكادر بتقنية عالية ودقة فريدة. من أين يأتي المعنى!؟ وكيف ينتقل للناس عبر المسافات والشاشات فيُدركه الأجنبي كما العربي، بنفس الشعور كما لو أنهما يجلسان إلى جوار بعضهما، يعيشان الحياة ذاتها وقادرين على استيعاب المعاني ذاتها من وراء الأشياء.
يختصر لنا عمر طريقا فلسفيا طويلا، ويخبرنا ببساطة عن تصور مستقر لديه منذ زمن، ومفاده أنه ينبغي للشخص، للفنان وناقل الفن، أن يكون لديه أيضا ما يقوله.
لا خير في فنان بلا همّ داخلي خاص، بلا اشتباك مع التفاصيل وحِمل عبء الرسالة كاملا.
في النهاية تظل الصورة مجرد صورة..
لكن هناك صورة تصور الجمال فقط، وهناك صورة أخرى تتحدث عنه، تأخذه من حياة لأخرى دون تغيير، أو بتعبير عمر:
“تمنحه حياة موازية في عين المشاهد”.
ينهي عمر الحديث من حيث ابتدأ، بالنور.
يقول أنه يُطارد الضوء في كل مكان، كهاوٍ وليس كمحترف. لا تشغله التصنيفات كثيرًا رغم ذلك؛ هو فقط يرغب في التعبير عن ذاته، يملؤه الشغف تجاه التفاصيل التي يتجاهلها الناس أحيانا كثيرة، ويعبأ بالنهايات أكثر من أي شيء آخر، وقبل هذا وبعده، يتماهى مع الأماكن، كسحابة كما يقول، أو كما يرغب.. يحط رحاله حيث يمكن له اكتشاف ما يتخطاه الزمن والعدسات الفاخرة والقلوب الباحثة عن الجمال الرخيص. يكرر التصوير عشرات المرات ربما، أحيانا كي يتأكد انطباعه أن الصورة الأولى (الشعور الأول) كان كافيا، وأحيانًا ليُرضي حسّ المصور الذي يعرفه كل حامل للكاميرا في كل مكان بالعالم.
حديث طويل مرّ سريعًا دون أن نستشعر، يُنهيه عمر بالتفاتة نبيلة، لكل أغنية لم تُغنَ، وكل لحن موسيقي لم يُعزف، وكل كلمة لم يُكتب لها أن تُكتب. لكل الجمال الراحل عن عالمنا دون أن ننتبه له يخبرنا عمر أنه شاهد عليه (شاهد على العصر)؛ قُدر له أن يكون قادرًا على جمع هذه التفاصيل في صورة، في تجربة إنسان أكثر منه فنان، وفي إيمان خاص بأنه يمكن للنور أن يُرشدنا إلى كل شيء، وإلى الإيمان نهاية.
هند عبد الحميد