قد نتفق أو نختلف حول أهداف الفن؛ هل هو تعبير حر مجرد، أم أنه يقترب أكثر ليكون وسيلة تواصل، بيننا وبين أنفسنا من ناحية وبيننا والعالم من ناحية أخرى. ولكن بالنسبة لـ “عليّ بزّي” فالتصوير يحمي الذاكرة ويحملها معه إلى كل مكان، فسواء كان يتجول في شوارع سوريا القديمة بتراثها الحي في كل زاوية، أو في أنحاء أستراليا المفعمة بالحرارة والألوان الزاهية.. كل مكان هو احتمالات لا نهائية: هل يظل حيًا ليحكي حكاياتنا فيما بعد، أم يرحل وتظل صورته شاهدًا على أن أحدًا مرّ من هنا، ويعرف حكاية هذا المكان كما يجب لها أن تكون.
تحدثنا في موقع الفن الإسلامي 21 مع عليّ.. عن ذكرياته وتأثير الفن عليه في الماضي والحاضر، وكيف يتخيل أن يكون للتصوير دور في مستقبله، وهذا هو حوارنا.
في إجابة عن سؤال: هل تستطيع وصف مشروعك الفوتوغرافي؟
يُخبرنا عليّ أنه لا يمتلك هوسًا بإظهار “جماليات” الأشياء بقدر ما هي رغبة في تسجيل اللحظة. ولا يعني هذا عدم اهتمام بالجمال في ذاته بقدر ما هو اعتراف خفّي به.
يحمل عليّ ثقة خاصة في الأماكن وما تحمله من رسائل خفية وأثر سواء على الحاضر _في لحظة التوثيق (التصوير)_ أو عليه هو ذاته في المستقبل، حينما يعود للصورة في زمان ومكان مختلفين كليًا فتتجدد رؤيته للماضي، ويُعيد تعريفه وفقًا لما اكتسبه من معارف ومهارات جديدة.
في الماضي، يتذكر عليّ زيارته الأولى للمسجد الأموي بحلب، وكيف رآه بعين السائح وهو ابن سوريا منذ ميلاده، فحاله حالنا جميعا حين ننشأ ونحيا طوال عمرنا في مكان عتيق وننسى أو ننشغل بتفاصيل الحياة اليومية ثم نكتشف فجأة أن التاريخ يُحيط بنا من كل ناحية، وأننا نراه كما لو كنا نزور هذا العالم لأول مرة.
في المسجد الأموي تعرّف عليّ على علاقة الإنسان بالمكان، ولم يفصل أحدهما عن الآخر كعادة السائحين، بل سعى في توثيقه للمكان أن يكون الإنسان حاضرّا وبقوة.. وأن يطغى حضوره أحيانًا على كل شيء آخر، فتصبح الصورة ذات أبعاد، ونراها نحن بعين الشهود على اللحظة، وكأنه يمكن لنا أن نقول بثقة: كنّا هناك وقت التقاطها.
في ظل دراسته التقنية الجافة أحيانًا في مجال الـ IT، وجد عليّ متعته الخاصة في تروية هذه المعرفة التكنولوجية بشيء من متعة الروح. فمزج التقنية بالتصوير، وكانت النتيجة كما نراها في صوره، مزيجا مبهرًا للعين والقلب، ومتنفسًا حلوًا له هو نفسه؛ يُعينه على الجمود ويمنحه بريقًا يتأتى من الذكريات أحيانًا، ومن فهم كيفية وآلية عمل الأشياء والصور أحيانًا أخرى كثيرة، فيصبح بإمكان اللقطات التي يختطفها أن تُثير مشاعر عدة في آن واحد، وأن تحملنا معه إلى حيث كان في اللحظة التي التقطها، فكريًا ومكانيًا.
في سؤال آخر عما إذا كان مشروعه الفوتوغرافي يرتبط أكثر بالمكان أم بالكلمة أم بالحالة؟ أجابنا عليّ أنه:
يرتبط بالحالة أكثر.
وبمزيد من التوضيح.. لا يوثّق عليّ شيئا مجهولًا للناس، بل أشياء معروفة وربما مشهورة بالفعل. لكن الصورة بالنسبة له ترتبط بحالته هو ذاته في المكان والزمان. فهو من ناحية يحاول توثيق التفاصيل والأماكن التي قد لا تتواجد في حياتنا مرة أخرى لأي سبب كان، وهو ما يعني أنه يصور التاريخ بشكل أو بآخر، لنفسه وللآخرين.
ومن ناحية أخرى، وكما يستطرد: تستهويني فكرة أن يكون الأشخاص قادرين على التعبير بالكاميرا دون أي كلمة.
في تجربته الخاصة، كانت الكاميرا هي وسيلته لقول الكثير مما اكتنزه لسنوات، فطوال سنين الطفولة والمراهقة ظلت شخصيته تتطور وخبراته تتزايد دون وسيلة محددة للتعبير، وفي المرة الأولى التي أمسك فيها الكاميرا:
“قدرت أن أعبّر”
كما يروي لنا. ومازال ربما يروي حكايته الخاصة من حينها.. من خلال عدسات الكاميرا.
أما عن تأثير التصوير عليه هو شخصيًا، فيقول بأنه يزور نفسه في الماضي كلما نظر إلى صورة ما هناك.. يزور الشخص نعم، لكنه أيضا يزور الأماكن والأفكار التي عبّر عنها بالصورة حينذاك.. ثم اختفت أو تغيرت أو تم محوها أو هجرها أو تدميرها مع الوقت وصولا للحظة الحالية. التصوير _بالنسبة لعليّ_ هو محفز في ذاته، على التذكّر وأيضا على رؤية الصورة الكبرى.. فكلنا كنا ولا نزال نهرب من هذه الفكرة أو تلك، من هذا الحدث أو ذاك.. أما في الصورة فليس ثمة مساحة للهرب.
ربما من خلال هذا تكون الصورة هي رسالته لنفسه والعالم؛ ما يريد أن يقوله تخبره الصورة دون معاناة.
ولأنه يمتلك رسالته الخاصة، فكما كل فنان عليه أن يكتشف طريقته الخاصة جدا للتعبير عنها. لذا، لا يمكننا القول أن صوره حيادية.. حتى لو كانت توثيقا.. ففي النهاية صوره هي آراؤه بكل ما فيها من انحياز أو إصرار.
وتوثيق المكان هو توثيق للحالة التي أحاطت بهذا المكان وللتاريخ المتراكم الذي يتم تجاهله في نفس المكان تحت وطأة الإزالة أو توقعها.
لذا.. وفي سؤال آخر عما يراه مميزًا في الفن الإسلامي خاصة، وعما رآه خلال أكثر من عقدين من التصوير ويعتقد أنه يمنح العمارة الإسلامية رونقها، أخبرنا عليّ التالي:
يبدو أن الفن الإسلامي قد امتلك حرفيين أدركوا -منذ الماضي- أن الفن لا يُحترف لذاته فقط؛ فالجامع ليس مجرد مكان للصلاة، بل مساحة تعكس قيمة المكان المعنوية (الروحانية) في نفوس الناس. ففي ديانات مثل البوذية، تنعكس القيم المادية من طقوس شراء العطايا للإله ومن وضع الهدايا والطعام لأجل التماثيل في المعابد، وفي الديانة المسيحية نرى التركيز المكثف على لحظة صلب المسيح، التي تفرض على الدوام حالة من الحزن على أماكن العبادة تأثرًا بهذه اللحظة عبر العقود.
الفن الإسلامي، بالنسبة لعليّ، هو فن ممتد عبر العقود، وهو يعبر، خاصة في الأماكن الأثرية والمساجد القديمة، عن مرحلة كان فيها المكان مرتبطا بشكل وثيق بالإنسان، وكان معنيا بالجانب البشري أكثر.
وصلنا للنهاية في محادثتنا الثرية مع الفنان علي بَزّي.. لنكتشف أنه _وعلى الرغم من كثافة إنتاجه الفني_ مازال في جعبته الكثير من الصور التي لم تُلتقط بعد، وتنتظر منه أنه يقوم بتوثيقها من خلال الحالة ومن خلال حفظ التاريخ من الزوال..
وعلى أمل أن يستوفي عليّ جميع رسائله يمكننا القول أنه فنان من طراز فريد، يحمل نبرته الخاصة ولا يبالي بدوران العالم من حوله.. ينتظر طويلا كي تلتقط الكاميرا رسالته وتجمع تفاصيلها من الألوان والأضواء والناس، وحين تقولها تصرخ عاليا بكل ما يمكن للكاميرا أن تقوله دون صوت أو كلمة واحدة.
هند عبد الحميد
Mohammad Ali Bazzi